التطويبات :
أ. طوبى للمساكين بالروح
ما هي "المسكنة بالروح" إلا حياة التواضع، خلالها يدرك الإنسان أنه بدون الله يكون كلا شيء، فينفتح قلبه بانسحاق لينعم ببركاته. فإن كانت خطيّة آدم الأولى هي استغناءه عن إرادة الله بتحقيق إرادته الذاتيّة، لذلك جاء كلمة الله الغني بحق مفتقرًا من أجلنا، ليس بالإخلاء عن أمجاده فحسب، وإنما بإخلائه أيضًا عن إرادته التي هي واحدة مع إرادة أبيه. كنائبٍ عنّا افتقر ليتقبّل غنى إرادة أبيه الصالح، قائلاً: "لتكن لا إرادتي بل إرادتك".
ب. طوبى للحزانى
الإنسان المتواضع ينطلق بالروح القدس إلى "الحزن الروحي"، حيث يدرك خطاياه ويشعر بثقلها مقدّمًا التوبة الصادقة. إنه يتلمّس أيضًا الضعف البشري فيحزن من كل نفس ساقطة.
وإن كان السيّد بلا خطيّة، لكنّه انطلق بنا أيضًا إلى هذا الباب "الحزن الروحي"، فكان في لقائه مع الأشرار، "حزينًا على غلاظة قلوبهم" (مر 3: 5).
ج. طوبى للودعاء
الوداعة في حقيقتها ليست استكانة، لكنها قوّة الروح الداخلي الذي يدرك أسرار الخلاص الأبدي فلا تربكه الأمور الزمنيّة. يتفهّم رسالته الحقيقية، فلا يتأثّر بالتفاهات الباطلة. إنه كالأسد الذي لا يهتز أمام من يظن أنه يستفزّه، وليس كالعصفور الذي يتأثّر جدًا لأية حركة تصدر عن طفل صغير، هكذا النفس الوديعة إذ تدرك إمكانيّات الله فيها، وتتفهّم قوّة الروح، تحيا بوداعة داخليّة تنعكس على التصرّفات الخارجيّة.
د. طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ
إذ يحمل المؤمن وداعة المسيح في داخله يرث الأرض التي تطلب بالأكثر أن ترتوي بالمسيح نفسه، برّنا، فيصرخ قائلاً: "كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله" (مز 42: 1). يدخل بنا الروح القدس خلال هذا الجوع والعطش إلى اتّحاد أعمق مع السيّد المسيح برّنا، ويرتفع بنا إلى حضن الآب لنراه فنشبع به. لهذا يقول المرتّل: "أمّا أنا فبالبرّ (أي بالمسيح) انظر وجهك، أشبع إذا استيقظت بشبهك" (مز 17: 15). بالسيّد المسيح ندخل إلى حضن أبيه، فنرى وجهه، ونشبع إذ نستيقظ من غفلتنا حاملين شبهه فينا.
ه. طوبي للرحماء
كلمة "الرحمة" هنا لا تُشير إلى مجرّد العطاء المادي أو حتى العاطفة وإنما المشاركة الفعليّة للآخرين، وكأننا نحتل مكانهم، فنشعر بآلامهم وأتعابهم، كما فعل السيّد المسيح نفسه الذي رحمنا باقترابه إلينا وقبوله طبيعتنا وحمله آلامنا، لذلك يوصينا الرسول بولس قائلاً: "اذكروا المقيّدين كأنكم مقيّدون معهم والمذلّين كأنكم أنتم أيضًا في الجسد" (عب 13: 3). فإن كنّا ندخل مع إخوتنا تحت آلامهم لنسندهم بالحب والرحمة يدخل إلينا ربّنا يسوع نفسه تحت آلامنا ليهبنا حبّه ورحمته! وعلى العكس "الحكم هو بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة، والرحمة تفتخر على الحكم" (يع 2: 13).
و. طوبى لأنقياء القلب
"النقاوة" كما جاءت في التعبير اليوناني إنّما تُشير إلى الغسل والتطهير كإزالة الأوساخ من الملابس، وتعني أيضًا تنقية ما هو صالح ممّا هو رديء كفصل الحنطة عن التبن، وتطهير الجيش من الخائفين..وهكذا يصفو القلب ويتنقّى بكل اشتياقاته وأحاسيسه ودوافعه فلا يطلب في كل شيء إلا الله وحده، فيعاينه خلال الإيمان بالروح القدس الساكن فيه.
ز. طوبى لصانعي السلام
فأبناء الله صانعوا سلام، لأنه ينبغي للأبناء أن يتشبّهوا بأبيهم. إنهم صانعوا سلام في داخلهم، إذ يسيطرون على حركات أرواحهم ويخضعونها للصواب أي للعقل والروح، ويُقمعون شهواتهم الجسديّة تمامًا، وهكذا يظهر ملكوت الله فيهم فيكون الإنسان هكذا: كل ما هو سامٍِ وجليل في الإنسان يسيطر بلا مقاومة على العناصر الأخرى الجسدانيّة... هذا وينبغي أن يخضع ذلك العنصر السامي لما هو أفضل أيضًا، ألا وهو "الحق" ابن الله المولود، إذ لا يستطيع الإنسان السيطرة على الأشياء الدنيا، ما لم تَخضع ذاته لمن هو أعظم منها هذا هو السلام الذي يعطي الإرادة الصالحة، هذه هي حياة الإنسان الحكيم صانع السلام!
طوبى لصانعي السلام، لا بإعادة السلام بين المتخاصمين فحسب، وإنما للذين يقيمون سلامًا في داخلهم... فإنه إن لم يوجد سلام في قلبي ماذا يفيدني أن يكون الآخرون في سلام؟!
ح. طوبى للمطرودين من أجل البرّ
إن كان السيّد قد ختم التطويبات باحتمال التعيير والطرد أي الاضطهاد فقد اشترط لنوال المكافأة السماويّة أن نحتمل ذلك "من أجل البرّ" أو كما يقول "من أجلي" إذ هو برّنا، وأن ما يُقال عنّا من تعييرات يكون كذبًا.
عندما عانى القدّيس يوحنا الذهبي الفم الآلام والاضطهاد من أفدوكسيا يعاونها رجال الدين أنفسهم كتب من سجنه إلىالأسقف قرياقوص:
[عندما اُستبعدت من المدينة لم أقلق، بل قلت لنفسي: إن كانت الإمبراطورة ترغب أن تنفيني، فلتفعل ذلك، فإنه "للرب الأرض"!
وإن كانت تود أن تنشرني، فإني أرى إشعياء مثلاً!
وإن أرادت إغراقي في المحيط، أفكر في يونان!
وإن أُلقيت في النار، أجد الثلاثة فتية قد تحمّلوا ذلك في الأتون!
إن وُضعت أمام وحوش ضارية، أذكر دانيال في جبّ الأسود!
إن أرادت رجمي، فإن استفانوس أول الشهداء أمامي!
إن طلبت رأسي، فلتفعل، فإن المعمدان يشرق أمامي!
عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا أترك العالم.
بولس يذكّرني: إن كنت بعد أرضي الناس لست عبدًا للمسيح.
المصدر :http://st-takla.org/pub_Bible-Interpretations/Holy-Bible-Tafsir-02-New-Testament/Father-Tadros-Yacoub-Malaty/01-Engeel-Matta/Tafseer-Engil-Mata__01-Chapter-05.html